فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم، وجعله في حَيّز ما لا يكون، فقال: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلاّ خطئًا} فجاء بصيغة المبالغة في النفي، وهي صيغة الجحود، أي ما وُجد لمؤمن أن يقتل مؤمنًا في حال من الأحوال إلاّ في حال الخطأ، أو أن يَقتُل قَتْلًا من القتل إلاّ قَتْل الخطأ، فكان الكلام حصرًا وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمنًا فقد سُلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن، على نحو «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها، غير مراد بها التشريع، بل هي كالمقدّمة للتشريع، لقصد تفظيع حال قتل المؤمنِ المؤمنَ قتلًا غيرَ خطأ، وتكون خبرية لفظًا ومعنًى، ويكون الاستثناء حقيقيًّا من عموم الأحوال، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمنًا في كلّ حال إلاّ في حال عدم القصد، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية.
ولك أن تجعل قوله: {وما كان لمؤمن} خبرًا مرادًا به النهي، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، وتجعل قوله: {إلاّ خطأ} ترشيحًا للمجاز: على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي، إذ قد عَلم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذونًا فيه للمؤمن، فهو قتل الخطأ، وقد عُلم أنّ المخطئ لا يأتِي فعلَه قاصدًا امتثالًا ولا عصيانًا، فرجع الكلام إلى معنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا قتلًا تتعلّق به الإرادة والقصدُ بحال أبدًا، فتكون الجملة مبدأ التشريع، وما بعدها كالتفصيل لها؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله: {إلاّ خطأ}.
وذهب المفسّرون إلى أنّ {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا} مراد به النهي، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أنّ الاستثناء مُنقطع بمعنى (لَكِن) فرارًا من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحةَ أن يقتل مؤمن مؤمنًا خطأ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا.
وإنّما جيء بالقيد في قوله: {ومن قتل مؤمنًا خَطَأ} لأنّ قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلاّ خطأ} مراد به ادّعاء الحصر أو النهيُ كما علمتَ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ، فيستغنى عن تقييده به. اهـ.

.سبب نزول الآية:

قال الفخر:
ذكروا في سبب النزول وجوها:
الأول: روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار، فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: إنه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ازداد وقع حذيفة عنده، فنزلت هذه الآية:
الرواية الثانية: أن الآية نزلت في أبي الدرداء، وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا، فذكر الواقعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «هلا شققت عن قلبه» وندم أبو الدرداء فنزلت الآية.
الرواية الثالثة: روي أن عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا لأبي جهل من أمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث، فقال أبو جهل: أليس أن محمدًا يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع، فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه، وجلده أبو جهل مائة جلدة، وجلده الحرث مائة أخرى، فقال للحرث: هذا أخي فمن أنت يا حرث، لله علي إن وجدتك خالي أن أقتلك.
وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع: إن كان دينك الأول هدى فقد تركته وإن كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه، فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله، فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر، فلقيه عياش خاليًا ولم يشعر باسلامه فقتله، فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه، فنزلت هذه الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ} فيه وجهان:
الأول: أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه.
الثاني: ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {إِلا خطأ} فيه قولان:
الأول: أنه استثناء متصل، والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها: الأول: أن هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى، لأن قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خطأ} معناه أنه يؤاخذ الإنسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فإنه لا يؤاخذ به.
الثاني: أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ، والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ.
وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار، أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا، فههنا يجوز قتله، ولا شك أن هذا خطأ، فإنه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافرا.
الثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: وما كان مؤمن ليقتل مؤمنًا إلا خطأ، ومثله قوله تعالى: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] تأويله: ما كان الله ليتخذ من ولد، لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء، إنما ينفي عنه ما لا يليق به، وأيضا قال تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] معناه ما كنتم لتنبتوا، لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر، إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها، فإنه تعالى هو القادر على إنبات الشجر.
الرابع: أن وجه الإشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل، وهو أن يقال: الاستثناء من النفي إثبات، وهذا يقتضي الإطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال، وذلك محال، إلا أن هذا الإشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات، وذلك مختلف فيه بين الأصوليين، والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه، وإذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات، وحينئذ يندفع الإشكال.
ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس باثبات قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي» ويقال: لا ملك الا بالرجال ولا رجال الا بالمال، والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا والله أعلم.
الخامس: قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة: تقدير الآية: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا، الا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا، قال: والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا، الا أن يكون خطأ فإنه لا يخرجه عن كونه مؤمنا.
واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن، وهو أصل باطل، والله أعلم.
القول الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن، ونظيره في القرآن كثير.
قال تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} [النساء: 29] وقال: {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 53] وقال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سلاما سلاما} [الواقعة: 25، 26] والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وقال بعضُ أهل المعاني: تقديرُ الآية: لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإِباحة، ولا النهي.
وقيل: إِنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم، وإِيجاب القتل. اهـ.

.قال ابن عطية:

قال جمهور المفسرين: معنى هذه الآية: وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنًا بوجه، ثم استثنى منقطعًا ليس من الأول، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن، والتقدير لكن الخطأ قد يقع.
وهذا كقول الشاعر الهذلي: [البسيط]
أَمْسى سَقَامُ خَلاءً لاَ أَنيسَ بِهِ ** إلاّ السِّباعُ وإلاَّ الرّيحُ بِالغُرَفِ

قال القاضي أبو محمد: سقام اسم واد، والغرف شجر يدبغ بلحائه، وكما قال جرير: [الطويل]
مِنَ البِيضِ لَمْ تَطُغَنْ بَعيدًا وَلَمْ تَطَأْ ** على الأرْضِ إلاّ ريطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ

وفي هذا الشاهد نظر، ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر {كان} بمعنى استقر ووجد، كأنه قال، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ {لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً}، إذ هو مغلوب فيه أحيانًا، فيجيء يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين، وقيل: لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه {أَن يَقْتُلَ} بغير حق {مُؤْمِنًا} فإن الإيمان زاجر عن ذلك {إِلاَّ خَطَأ} فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية وقلما يخلو المقاتل عنه، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنًا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو على أنه مفعول له أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعًا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ.
وقال بعضهم: الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، وقيل: إلا بمعنى ولا، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا عمدًا ولا خطأ، وقيل: الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئًا، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو الشخص، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبًا، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} هذه آية من أُمّهات الأحكام.
والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلاَّ خطأ؛ فقوله: {وَمَا كَانَ} ليس على النّفي وإنما هو على التحريم والنهي، كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنًا قط؛ لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده، كقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60].
فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدًا.
وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله.
وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعًا ليس من الأوّل وهو الذي يكون فيه {إِلاَ} بمعنى {لَكِنِ} والتقدير ما كان له أن يقتله ألَبّتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا؛ هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله.
ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء: 157].